فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الْوَجْهُ الثَّانِي عَشَرَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ عَنْ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ذَنْبًا إلَّا ذَكَرَ تَوْبَتَهُ مِنْهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ: إمَّا أَنْ يَقُولُوا بِالْعِصْمَةِ مِنْ فِعْلِهَا وَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا بِالْعِصْمَةِ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَيْهَا؛ لاسيما فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ فَإِنَّ الْأُمَّةَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَعْصُومٌ أَنْ يُقِرَّ فِيهِ عَلَى خَطَأٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يُنَاقِضُ مَقْصُودَ الرِّسَالَةِ وَمَدْلُولَ الْمُعْجِزَةِ. وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ بَسْطِ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ فِي كِتَابِهِ عَنْ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ذَنْبًا إلَّا ذَكَرَ تَوْبَتَهُ مِنْهُ كَمَا ذَكَرَ فِي قِصَّةِ آدَمَ وَمُوسَى ودَاوُد وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ. وَبِهَذَا يُجِيبُ مَنْ يَنْصُرُ قَوْلَ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْعِصْمَةِ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى مَنْ يَنْفِي الذُّنُوبَ مُطْلَقًا فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مَنْ أَعْظَمِ حُجَجِهِمْ مَا اعْتَمَدَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ حَيْثُ قَالُوا: نَحْنُ مَأْمُورُونَ بِالتَّأَسِّي بِهِمْ فِي الْأَفْعَالِ وَتَجْوِيزُ ذَلِكَ يَقْدَحُ فِي التَّأَسِّي؛ فَأُجِيبُوا بِأَنَّ التَّأَسِّي إنَّمَا هُوَ فِيمَا أُقِرُّوا عَلَيْهِ كَمَا أَنَّ النَّسْخَ جَائِزٌ فِيمَا يُبَلِّغُونَهُ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَيْسَ تَجْوِيزُ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الطَّاعَةِ لِأَنَّ الطَّاعَةَ تَجِبُ فِيمَا لَمْ يُنْسَخْ فَعَدَمُ النَّسْخِ يُقَرِّرُ الْحُكْمَ وَعَدَمُ الْإِنْكَارِ يُقَرِّرُ الْفِعْلَ وَالْأَصْلُ عَدَمُ كُلٍّ مِنْهُمَا. ويُوسُفُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ فَعَلَ مَعَ الْمَرْأَةِ مَا يَتُوبُ عَنْهُ أَوْ يَسْتَغْفِرُ مِنْهُ أَصْلًا. وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَقَعْ مِنْهُ الْفَاحِشَةُ وَلَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَذْكُرُ أَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُ بَعْضُ مُقَدِّمَاتِهَا مِثْلَ مَا يَذْكُرُونَ أَنَّهُ حَلَّ السَّرَاوِيلَ وَقَعَدَ مِنْهَا مَقْعَدَ الْخَاتِنِ وَنَحْوَ هَذَا وَمَا يَنْقُلُونَهُ فِي ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مُسْتَنَدَ لَهُمْ فِيهِ إلَّا النَّقْلُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَدْ عُرِفَ كَلَامُ الْيَهُودِ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَغَضُّهُمْ مِنْهُمْ كَمَا قَالُوا فِي سُلَيْمَانَ مَا قَالُوا وَفِي دَاوُد مَا قَالُوا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَنَا مَا يَرُدُّ نَقْلَهُمْ لَمْ نُصَدِّقْهُمْ فِيمَا لَمْ نَعْلَمْ صِدْقَهُمْ فِيهِ فَكَيْفَ نُصَدِّقُهُمْ فِيمَا قَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى خِلَافِهِ. وَالْقُرْآنُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْ يُوسُفَ مِنْ الِاسْتِعْصَامِ وَالتَّقْوَى وَالصَّبْرِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ مَا لَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَحَدٍ نَظِيرُهُ فَلَوْ كَانَ يُوسُفُ قَدْ أَذْنَبَ لَكَانَ إمَّا مُصِرًّا وَإِمَّا تَائِبًا وَالْإِصْرَارُ مُمْتَنِعٌ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ تَائِبًا. وَاَللَّهُ لَمْ يَذْكُرْ عَنْهُ تَوْبَةً فِي هَذَا وَلَا اسْتِغْفَارًا كَمَا ذَكَرَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا فَعَلَهُ يُوسُفُ كَانَ مِنْ الْحَسَنَاتِ الْمَبْرُورَةِ وَالْمَسَاعِي الْمَشْكُورَةِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ فِي يُوسُفَ كَذَلِكَ؛ كَانَ مَا ذَكَرَ مِنْ قَوْلِهِ: {إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} إنَّمَا يُنَاسِبُ حَالَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ لَا يُنَاسِبُ حَالَ يُوسُفَ فَإِضَافَةُ الذُّنُوبِ إلَى يُوسُفَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ فِرْيَةٌ عَلَى الْكِتَابِ وَالرَّسُولِ وَفِيهِ تَحْرِيفٌ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَفِيهِ الِاغْتِيَابُ لِنَبِيِّ كَرِيمٍ وَقَوْلُ الْبَاطِلِ فِيهِ بِلَا دَلِيلٍ وَنِسْبَتُهُ إلَى مَا نَزَّهَهُ اللَّهُ مِنْهُ وَغَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ هَذَا مِنْ الْيَهُودِ أَهْلِ البهت الَّذِينَ كَانُوا يَرْمُونَ مُوسَى بِمَا بَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْهُ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ؟ وَقَدْ تَلَقَّى نَقْلَهُمْ مَنْ أَحْسَنَ بِهِ الظَّنَّ وَجَعَلَ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ تَابِعًا لِهَذَا الِاعْتِقَادِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُنْحَرِفِينَ فِي مَسْأَلَةِ الْعِصْمَةِ عَلَى طَرَفَيْ نَقِيضٍ كِلَاهُمَا مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ: قَوْمٌ أَفْرَطُوا فِي دَعْوَى امْتِنَاعِ الذُّنُوبِ حَتَّى حَرَّفُوا نُصُوصَ الْقُرْآنِ الْمُخْبِرَةَ بِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنْ التَّوْبَةِ مِنْ الذُّنُوبِ وَمَغْفِرَةِ اللَّهِ لَهُمْ وَرَفْعِ دَرَجَاتِهِمْ بِذَلِكَ. وَقَوْمٌ أَفْرَطُوا فِي أَنْ ذَكَرُوا عَنْهُمْ مَا دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى بَرَاءَتِهِمْ مِنْهُ وَأَضَافُوا إلَيْهِمْ ذُنُوبًا وَعُيُوبًا نَزَّهَهُمْ اللَّهُ عَنْهَا. وَهَؤُلَاءِ مُخَالِفُونَ لِلْقُرْآنِ وَهَؤُلَاءِ مُخَالِفُونَ لِلْقُرْآنِ وَمَنْ اتَّبَعَ الْقُرْآنَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ كَانَ مِنْ الْأُمَّةِ الْوَسَطِ مُهْتَدِيًا إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيَّيْنِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ». اهـ.

.قال أبو السعود:

{قَالَتْ فذلكن}
الفاء فصيحةٌ والخطابُ للنسوة والإشارةُ إلى يوسف بالعنوان الذي وصفْنه به الآن من الخروج في الحسن والجمالِ عن المراتب البشريةِ والانتصار على الملَكية، فاسمُ الإشارة مبتدأٌ والموصولُ خبرُه والمعنى إن كان الأمرُ قلتنّ فذلكنّ الملكُ الكريمُ النائي عن المراتب البشريةِ هو: {الذى لُمْتُنَّنِى فِيهِ} أي عيَّرْتُنّني في الافتتان به حيث رَبَأْتُن بمحلِّي بنسبتي إلى العزيز ووضعتُنَّ قدرَه بكونه من المماليك أو بالعنوان الذي وصفْنه به فيما سبق بقولهن: امرأةُ العزيز عشِقت عبدَها الكَنعاني فهو خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي فهو ذلك العبدُ الكنعانيُّ الذي صورتُنّ في أنفسكن وقلتنّ فيه وفيَّ ما قلتن فالآن قد علمتُنّ من هو وما قولُكن فينا، وأما ما يقال تعني أنكن لم تصوِّرْنه بحقِّ صورتِه ولو صوّرتُنّه بما عاينتُنّ لعذرتُنّني في الافتتان به فلا يلائمُ المقام فإن مرادَها بدعوتهن وتمهيدِ ما مهَّدَتْه لهن تبكيتُهن وتنديمُهن على ما صدر عنهن من اللوم وقد فعلت ذلك بما لا مزيدَ عليه، وما ذكر من المقال فحقُّ المعتذر قبل ظهور معذرتِه وقد قيل في تعليل الملَكية: أن الجمعَ بين الجمال الرائقِ والكمال الفائق والعصمةِ البالغةِ من الخواصِّ الملكية وهو أيضًا لا يلائم قولها: {فذلكن الذي لُمْتُنَّنِى فِيهِ} فإن عنوانَ العصمةِ مما ينافي تمشيةَ مرامِها ثم بعدما أقامت عليهن الحجة وأوضحت لديهن عذرَها وقد أصابهن من قِبله عليه السلام ما أصابها باحت لهن ببقية سرِّها فقالت: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ} حسبما قلتنّ وسمعتن: {فاستعصم} امتنع طالبًا للعصمة وهو بناءُ مبالغةٍ يدل على الامتناع البليغِ والتحفّظ الشديد كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها كما في استمسك واستجمع الرأيَ وفيه برهانٌ نيِّر على أنه لم يصدُر عنه عليه السلام شيء مُخِلٌّ باستعصامه بقوله: معاذ الله من الهمّ وغيرِه. اعترفت لهن أولًا بما كن يسمعنْه من مراودتها له وأكدتْه إظهارًا لابتهاجها بذلك ثم زادت على ذلك أنه أعرض عنها على أبلغ ما يكون ولم يَمِلْ إليها قط ثم زادت عليه أيضًا أنها مستمرةٌ على ما كانت عليه غير مرغوبة عنه لا بلوم العواذل ولا بإعراض الحبيب فقالت: {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ} أي آمرُ به فيما سيأتي كما لم يفعل فيما مضى فحُذف الجارُّ وأوصل الفعلُ إلى الضمير كما في أمرتك الخيرَ فالضميرُ للموصول أو أمري إياه أي موجبَ أمري ومقتضاه، فما مصدرية والضميرُ ليوسف وعبّرت عن مراودتها بالأمر إظهارًا لجريان حكومتِها عليه واقتضاءً للامتثال بأمرها: {لَيُسْجَنَنَّ} بالنون المثقلة آثرت بناءَ الفعل للمفعول جريًا على رسم الملوكِ أو إيهامًا لسرعة ترتبِ ذلك على عدم امتثالِه لأمرها كأنه لا يدخُل بينهما فعلُ فاعل: {وَلَيَكُونًا} بالمخففة: {مِنَ الصاغرين} أي الأذلاء في السجن وقد قرئ الفعلان بالتثقيل ولكن المشهورةَ أولى لأن النونَ كُتبت في المصحف ألفًا على حكم الوقف، واللامُ الداخلة على حرف الشرطِ موطئةٌ للقسم وجوابُه سادٌّ مسدَّ الجوابين ولقد أتتْ بهذا الوعيدِ المنطوي على فنون التأكيدِ بمحضر منهن ليعلم يوسفُ عليه السلام أنها ليست في أمرها على خُفية ولا خفية من أحد فتضيقَ عليه الحيلُ وتعيا به العللُ وينصحن له ويُرشِدْنه إلى موافقتها. ولما كان هذا الإبراقُ والإرعادُ منها مظِنةً لسؤال سائل يقول: فما صنع يوسفُ حينئذ؟ قيل: {قَالَ} مناجيًا لربه عزَّ سلطانُه: {رَبّ السجن} الذي أوعَدَتْني بالإلقاء فيه وقرأ يعقوبُ بالفتح على المصدر: {أَحَبُّ إِلَىَّ} أي آثَرُ عندي لأنه مشقةٌ قليلةٌ نافذةٌ إثرَها راحاتٌ جليلةٌ أبديةٌ: {مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ} من مؤاتاتها التي تؤدي إلى الشقاء والعذابِ الأليم، وهذا الكلامُ منه عليه السلام مبنيٌّ على ما مر من انكشاف الحقائقِ لديه وبروزِ كلَ منها بصورتها اللائقةِ بها، فصيغةُ التفضيلِ ليست على بابها إذ ليس له شائبةُ محبةٍ لما دعتْه إليه، وإنما هو والسجنُ شران أهونُهما وأقربُهما إلى الإيثار السجنُ. والتعبيرُ عن الإيثار بالمحبة لحسم مادةِ طمعِها عن المساعدة خوفًا من الحبس والاقتصار على ذكر السجنِ من حيث إن الصَّغارَ من فروعه ومستتبعاتِه، وإسنادُ الدعوةِ إليهن جميعًا لأن النسوة رغّبْنه في مطاوعتها وخوَّفْنه من مخالفتها، وقيل: دعَوْنه إلى أنفسهن، وقيل: إنما ابتُلي عليه السلام بالسجن لقوله هذا، وكان الأولى به أن يسألَ الله تعالى العافية، ولذلك ردّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على من كان يسأل الصبرَ: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ} أي إن لم تصرف: {عَنّى كَيْدَهُنَّ} في تحبيب ذلك إليّ وتحسينه لديّ بأن تُثبِّتَني على ما أنا عليه من العِصمة والعِفة: {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أي أمِلْ إلى إجابتهن أو إلى أنفسهن على قضية الطبيعةِ وحكم القوةِ الشهوية، وهذا فزعٌ منه عليه السلام إلى ألطاف الله تعالى جريًا على سُنن الأنبياءِ والصالحين في قصر نيلِ الخيراتِ والنجاة عن الشرور على جناب الله عز وجل وسلبِ القوى والقدر عن أنفسهم، ومبالغةٌ في استدعاء لطفِه في صرف كيدِهن بإظهار أن لا طاقةَ له بالمدافعة كقول المستغيثِ: أدركْنى وإلا هلكتُ لا أنه يطلب الإجبارَ والإلجاءَ إلى العصمة والعفةِ وفي نفسه داعيةٌ تدعوه إلى هواهن، والصبْوةُ الميلُ إلى الهوى ومنه الصَّبا لأن النفوسَ تصبو إليها لطيب نسيمِها ورَوْحِها. وقرئ {أصبّ إليهن} من الصبابة وهي رقةُ الشوق: {وَأَكُن مّنَ الجاهلين} الذين لا يعملون بما يعلمون لأن من لا جدوى لعلمه فهو والجاهل سواءٌ أو من السفهاء بارتكابِ ما يدعونني إليه من القبائح لأن الحكيمَ لا يفعل القبيح.
{فاستجاب لَهُ رَبُّهُ}
دعاءَه الذين تضمنه قولُه: وإلا تصرف عني كيدهن الخ، فإن فيه استدعاءً لصرف كيدِهن على أبلغ وجهٍ وألطفِه كما مر، وفي إسناد الاستجابة إلى الرب مضافًا إليه عليه السلام ما لا يخفى من إظهار اللطف: {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} حسب دعائِه وثبّته على العصمة والعفة: {إِنَّهُ هُوَ السميع} لدعاء المتضرعين إليه: {العليم} بأحوالهم وما يصلحهم. اهـ.

.قال الألوسي:

{قَالَتْ فذلكن}
الفاء فصيحة والخطاب للنسوة والإشارة حسبما يقتضيه الظاهر إلى يوسف عليه السلام بالعنوان الذي وصفته به الآن من الخروج في الحسن والكمال عن المراب البشرية، والاقتصار على الملكية، أو بعنوان ما ذكر مع الاخبار وتقطيع الأيدي بسببه أيضًا، فاسم الإشارة مبتدأ والموصول خبره، والمعنى إن كان الأمر كما قلتن فذلكن الملك الكريم الخارج في الحسن عن المراتب البشرية، أو الذي قطعتن أيدين بسببه وأكبرتنه ووصفتنه بما وصفتنه هو: {الذى لُمْتُنَّنِى فِيهِ} أي عيرتني في الافتنان فيه أو بالعنوان الذي وصفنه به فيما سبق بقولهن: امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني، فاسم الإشارة خبر لمبتدأ محذوف دخلت الفاء عليه بعد حذفه، والموصول صفة اسم الاشارة أي فهو ذلكن العبد الكنعاني الذي صورتن في أنفسكن وقلتن فهي وفيّ ما قلتن، فالآن قد علمتن من هو وما قولكن فينا، وقيل: أرادت هذا ذلك العبد الكنعاني الذي صورتن في أنفسكن ثم لمتنني فيه على معنى أنكن لم تصورنه بحق صورته ولو صورتنه بما عاينتن لعذرتنني في الافتتان به، والإشارة بما يشار به إلى البعيد مع قرب المشار إليه وحضوره قيل: رفعًا لمنزلته في الحسن واستبعادًا لمحله فيه، وإشارة إلى أنه لغرابته بعيد أن يوجد مثله.
وقيل: إن يوسف عليه السلام كان في وقت اللوم غير حاضر وهو عند هذا الكلام كان حاضرًا فإن جعلت الإشارة إليه باعتبار الزمان الأول كانت على أصلها، وإن لوحظ الثاني كان قريبًا، وكانت الإشارة بما ذكر لتنزيله لعلو منزلته منزلة البعيد، واحتمال أنه عليه السلام أبعد عنهن وقت هذا الكلام لئلا يزددن دهشة وفتنة ولذا أشير إليه بذلك بعيد.
وجوز ابن عطية كون الإشارة إلى حب يوسف عليه السلام، وضمير: {فيه} عائد إليه، وجعل الإشارة على هذا إلى غائب على بابها ويبعده على ما فيه.
{وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسه} وهو إباحة منها ببقية سرها بعد أن أقامت عليهن الحجة وأوضحت لديهن عذرها وقد أصابهن من قبله ما أصابها أي والله لقد راودته حسبما قلتن وسمعتن: {فَاسْتَعْصَمَ} قال ابن عطية: أي طلب العصمة وتمسك بها وعصاني.
وفي الكشاف أن الاستعصام بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد كأنه في عصمة وهو مجتهد في الاستزادة منها، ونحوه استمسك واستوسع الفتق واستجمع الرأي واستفحل الخطب. اهـ.
وفي البحر (والذي ذكره الصرفيون في: {استعصم} أنه موافق لاعتصم، وأما استمسك واستوسع واستجمع فاستفعل فيه أيضًا موافقة لافتعل، والمعنى امتسك واتسع واجتمع، وأما استفحل فاستفعل فيه موافقة لتفعل أي تفحل نحو استكبر وتكبر) فالمعنى فامتنع عما أرادت منه؛ وبالامتناع فسرت العصمة على إرادة الطلب لأنه هو معناها لغة، قيل: وعنت بذلك فراره عليه السلام منها فإنه امتنع منها أولًا بالمقال ثم لما لم يفده طلب ما يمنعه منها بالفرار، وليس المراد بالعصمة ما أودعه الله تعالى في بعض أنبيائه عليهم السلام مما يمنع عن الميل للمعاصي فإنه معنى عرفي لم يكن قبل بل لو كان لم يكن مرادًا كما لا يخفى.
وتأكيد الجملة بالقسم مع أن مضمونها من مراودتها له عن نفسه مما تحدث به النسوة لإظهار ابتهاجها بذلك.
وقيل: إنه باعتبار المعطوف وهو الاستعصام كأنها نظمته لقوة الداعي إلى خلافه من كونه عليه السلام في عنفوان الشباب ومزيد اختلاطه معها ومراودتها إياه مع ارتفاع الموانع فيما تظن في سلك ما ينكر ويكذب المخبر به فأكدته لذلك وهو كما ترى.
وفي الآية دليل على أنه عليه السلام لم يصدر منه ما سود به القصاص وجوه الطروس، وليت السدي لو كان قد سد فاء عن قوله: فاستعصم بعد حل سراويله.
ثم إنها بعد أن اعترفت لهن بما سمعنه وتحدثهن به وأظهرت من إعراضه عنها واستعصامه ما أظهرت ذكرت أنها مستمرة على ما كانت عليه لا يلويها عنها لوم ولا إعراض فقالت: {وَلَئن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءَامُرُهُ} أي الذي آمره به فيما سيأتي كما لم يفعل فيما مضى- فما- موصولة والجملة بعدها صلة والعائد الهاء، وقد حذف حرف الجر منه فاتصل بالفعل وهذا أمر شائع مع أمر كقوله:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

ومفعول (آمر) الأول إما متروك لأن مقصودها لزوم امتثال ما أمرت به مطلقًا كما قيل، وإما محذوف لدلالة: {يفعل} عليه وهو ضمير يعود على يوسف أي ما آمره به.
وجوز أن يكون الضمير الموجود هو العائد على يوسف والعائد على الموصول محذوف أي به، ويعتبر الحذف تدريجًا لاشتراطهم في حذف العائد المجرور بالحرف كونه مجرورًا بمثل ما جرّ به الموصول لفظًا ومعنى ومتعلقًا، وإذا اعتبر التدريج في الحذف يكون المحذوف منصوبًا، وكذا يقال في أمثال ذلك.
وقال ابن المنير في تفسيره: إن هذا الجار مما أنس حذفه فلا يقدر العائد إلا منصوبًا مفصولًا كأنه قيل: أمر يوسف إياه لتعذر اتصال ضميرين من جنس واحد، ويجوز أن تكون: {ما} مصدرية فالضمير المذكور ليوسف أي لئن لم يفعل أمري غياه، ومعنى فعل الأمر فعل موجبه ومقتضاه فهو إما على الإسناد المجازي أو تقدير المضاف، وعبرت عن مراودتها بالأمر إظهار لجريان حكومتها عليه واقتضاءًا للامتثال لأمرها.
{لَيُسْجَنَنَّ} بالنون الثقيلة آثرت بناء الفعل للمفعول جريًا على رسم الملوك.
وجوز أن يكون إيهامًا لسرعة ترتب ذلك على عدم امتثاله لأمرها كأنه لا يدخل بينهما فعل فاعل.
{وَلَيَكُونَا} بالمخففة: {مِّنَ الصَّاغِرِينَ} أي الأذلاء المهانين، وهو من صغر كفرح، ومصدر صغر بفتحتين، وصغرًا بضم فسكون، وصغار بالفتح، وهذا في القدر، وأما في الجثة والجرم فالفعل صغر ككرم، ومصدره صغر كعنب، وجعل بعضهم الصغار مصدرًا لهذا أيضًا وكذا الصغربالتحريك، والمشهور الأول، وأكدت السجن بالنون الثقيلة قيل: لتحققه، وما بعده بالنون الخفيفة لأنه غير متحقق.
وقيل: لأن ذلك الكون من توابع السجن ولوازمه، فاكتفت في تأكيده بالنون الخفيفة بعد أن أكدت الأول بالثقيلة، وقرأت فرقة بالتثقبل فيهما وهو مخالف لرسم المصحف لأن النون رسمت فيه بالألف ك: {نسفعًا} [العلق: 15] على حكم الوقف وهي يوقف عليها بالألف كما في قول الأعشى:
ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا

وذلك في الحقيقة لشبهها بالتنوين لفظًا لكونها نونًا ساكنة مفردة تلحق الآخر، واللام الداخلة على حرف الشرط موطئة للقسم وجوابه سادٌ مسدّ الجوابين، ولا يخفى شدة ما توعدت به كيف وأن للذل تأثيرًا عظيمًا في نفوس الأحرار وقد يقدمون الموت عليه وعلى ما يجرّ إليه.
قيل: ولم تذكر العذاب الأليم الذي ذكرته في: {ما جزاء من أراد بأهلك سواءًا} [يوسف: 25] الخ لأنها إذ ذاك كانت في طراوة غيظها ومتنصلة من أنها هي التي راودته فناسب هناك التغليظ بالعقوبة، وأما هنا فإنها في طماعية ورجاء، وإقامة عذرها عند النسوة فرقت عليه فتوعدته بالسجن وما هونم فروعه ومستتبعاته.
وقيل: إن قولها: {ليكونا من الصاغرين} إنما أتت به بدل قولها هناك: {عذاب أليم} [يوسف: 25] ذله بالقيد أو بالضرب أو بغير ذلك، لكن يحتمل أنها أرادت بالذلوالعذاب الأليم ما يكون بالضرب بالسياط فقط أو ما يكون به أو بغيره، أو أرادت بالذل ما يكون بالضرب وبالعذاب الأليم ما يكون به أو بغيره أو بالعكس، وكيفما كان الأمر فما طلبته هنا أعظمم ما لوحت بطلبه هناك لمكان الواو هناو (أو) هناك، ولعلها إنما بالغت في ذلك بمحضر من تلك النسوة لمزيد غيظها بظهور كذبها وصدقه وإصراره على عدم بلّ غليلها، ولتعلم يوسف عليه السلام أنها ليست في أمرها على خيفة ولا خفية من أحد، فيضيق عليه الحيل ويعيى به العللوينصحن له ويرشدنه إلى موافقتها فتدبر.